الجمعة، 22 يناير 2010

قراءة في كتاب فجر الإسلام

قراءة في كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين

من هو أحمد أمين؟؟
أحمد أمين أديب ومفكر ومؤرخ وكاتب موسوعي بدأ حياته أزهريا، واستطاع بعد محاولات أن يخلع هذا الزي، ثم عمل مدرسا بمدرسة القضاء الشرعي سنوات طويلة، ثم جلس على كرسي القضاء ليحكم بين الناس بالعدل، فصار العدل رسما له إلى جانب رسمه، ثم أصبح أستاذا بالجامعة، فعميدا رغم أنه لا يحمل درجة الدكتوراة، ثم تركها ليساهم في إنشاء أكبر مجلتين في تاريخ الثقافة العربية هما: "الرسالة"، و"الثقافة"، ثم بدأ رحلة من البحث والتنقيب في الحياة العقلية للعرب، فجاء بعد عناء طويل بـ"فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظُهر الإسلام".
كانت المعرفة والثقافة والتحصيل العلمي هي الشغل الشاغل لأحمد أمين، حتى إنه حزن حزنا شديدا على ما ضاع من وقته أثناء توليه المناصب المختلفة، ورأى أن هذه المناصب أكلت وقته وبعثرت زمانه ووزعت جهده مع قلة فائدتها، وأنه لو تفرغ لإكمال سلسلة كتاباته عن الحياة العقلية الإسلامية لكان ذلك أنفع وأجدى وأخلد.
امتازت كتاباته بدقة التعبير وعمق التحليل والنفاذ إلى الظواهر وتعليلها، والعرض الشائق مع ميله إلى سهولة في اللفظ وبعد عن التعقيد والغموض ، فألّف حوالي 16 كتابا كما شارك مع آخرين في تأليف وتحقيق عدد من الكتب الأخرى، وترجم كتابا في مبادئ الفلسفة.
أما شهرته فقامت على ما كتبه من تاريخ للحياة العقلية في الإسلام في سلسلته عن فجر الإسلام وضحاه وظهره، لأنه فاجأ الناس بمنهج جديد في البحث وفي أسلوبه ونتائجه فأبدى وجها في الكتابة التحليلية لعقل الأمة الإسلامية لم يُبدِه أحدٌ من قبله على هذا النحو لذلك صارت سلسلته هذه عماد كل باحث جاء من بعده ، فالرجل حمل سراجًا أنار الطريق لمن خلفه نحو تاريخ العقلية الإسلامية.
غير أنه كتب فصلا عن الحديث النبوي وتدوينه ووضع الحديث وأسبابه، لم يتفق معه فيه بعض علماء عصره العظام مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى السباعي، فصوبوا ما يحتاج إلى تصويب في لغة بريئة وأدب عف، وقرأ أحمد أمين ما كتبوا وخصهم بالثناء، إلا أن البعض الآخر قال: إنه تلميذ المستشرقين واتهموه بأنه يشكك في جهود المحدثين.
والواقع أن كتابا كـفجر الإسلام عن تاريخ الحياة العقلية في الإسلام منذ ظهوره وحتى سقوط
الخلافة الأموية تعرّض فيه كاتبه لآلاف الآراء ومئات الشخصيات، لا بد أن توجد فيه بعض الأمور والآراء التي تحتاج إلى تصويب دون أن يذهب ذلك بفضله وسبقه وقيمته.
وجد أحمد أمين صعوبة كبيرة في تحليل الحياة العقلية العربية، ويقول في ذلك: "لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمته هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب".
وأنا هنا سأقوم بقراءة لبعض ما جاء في الأبواب (الثاني والثالث والرابع) من هذا الكتاب। والله ولي التوفيق.


الباب الثاني : الإسلام
الفصل الأول : بين الجاهلية والإسلام

· بدأ المؤلف هذا الفصل بتبيين معنى الإسلام وأن له أثراً على العرب من ناحيتين : مباشرة ، وغير مباشرة تتمثل في الامتزاج مع الأمم الأخرى، وقد بين بوضوح معنى الإسلام وكيف مر هذا المصطلح بمراحل خصصته وجعلته الدين الذي أتى به محمد r، وكذلك قسم الإسلام إلى عقائد وأعمال، فأما العقائد فهي أصل الإسلام.
وعرج على نقطة مهمة وهي ضرورة وجود الإله عند جميع الناس، فالإنسان جبل على العبودية مهما كانت فكرة ذلك الإله، حتى ولو أنكر عبوديته فهو يتأله تلك الفكرة ويستلب لها.
قال الله تعالى(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً).
وأسهب المؤلف في وصف الله تعالى كما ورد في القرآن. وبتفصيل بعض العقائد الأساسية.
ثم انتقل للأعمال وبدأ يفصلها إلى أساسية وأخرى أخلاق سامية يدعو إليها الإسلام، وذكر فيها ما نصه (الإسلام هدم القبيلة، والوحدة الجنسية، وكره التفاضل بشرف القبيلة أو شرف الجنس ....)، فأقول: أن الإسلام لم يهدم الوحدة القبلية أو الجنسية بل هذبها ونظمها (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) ولذلك بعث الله نبيه من أشرف قبيلة من قبائل العرب، وكان النبي r دائما ما يقرر ذلك (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ولعل الكاتب لم يحسن التعبير في هذه الجملة، إذ أنه أصاب بالتي بعدها حينما قال أن الإسلام كره التفاضل بالقبيلة والجنس وهذا صحيح.
فالإسلام ارتقى بالعرب عقلياً، وكان له الأثر الكبير في تغيير قيمة الأشياء، وقد ذكر الكاتب أمثلة كثيرة عن الأشياء التي تغيرت عندهم ولكنه أثبت أنه لا بد أن تبقى رواسب للجاهلية في نفوسهم ومن أبرز ما بقي من الجاهلية الفخر بالأنساب والتعصب للقبيلة والجنس، فكانت تظهر بقوة أحياناً إذا بدأ ما يهيجها.
وأقول : لعل هذا من أبرز صفات العرب المستحكمة في نفوسهم، فهم لا يتركون العصبية إلا برادع ديني قوي، وإلا فإن العصبية ستظهر بوضوح وجلاء، ولهذا لما تناسى الصحابة معنى الأخوة في الإسلام صح صائحهم : (يا للمهاجرين ، يا للأنصار) وإذا كان حدث في الجيل الأمثل والنموذج الأسمى في الإسلام فكيف بمن بعدهم؟!
ولو لاحظت العرب الآن وبعد مرور القرون عليهم لم تمح آثار التعصب للقبيلةـ ولعل هذا كما أسلفنا هو من صميم جبلتهم وخلقتهم.
ثم يختم المؤلف هذا الفصل بإبراز النزعات الجاهلية في عهد بني أمية وأنها لم تختف بل ظهرت بجلاء، وهذه النزعات كانت ظاهرة أيضاً في الأدب الأموي.



الفصل الثاني: الفتح الإسلامي وعملية المزج بين الأمم
ثم انتقل في الفصل الثاني إلى بيان أثر الفتح الإسلامي في عملية المزج بين الأمم، وأن المسلمون العرب لما انفتحوا على تلك البلاد، بلاد فارس والروم وما تحويه من حضارة ورقي تأثروا بهم وأثروا بدرجة كبيرة.
ولعل أبرز ما ساعد على عملية التثاقف والمزج:
‌أ) التعاليم الإسلامية للفاتحين.
‌ب) دخول كثير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام.
‌ج) الاختلاط معهم في سكنى البلاد.
وهذه العوامل كان لها أثر على المغلوبين عندما رأوا سماحة الإسلام ووضوح هدفه في القتال، كذلك مما ساعد على المزج بينهم نظام الرق والولاء في الإسلام وقد أسهب وأطال فيه، لكن مفاده أن للإسلام نظام في الرق والعتق، ساعد على ظهور جيل من الموالي في الإسلام كان له دور كبير في إثراء العقلية الإسلامية العربية، فلم يعد البيت العربي عربياً خالصاً، بل كان له رقيق وإماء، فنتج أن دخلت فيهم عناصر فارسية ورومية أو مصرية. بل لم تعد الجزيرة العربية جزيرة للعرب، بل صارت للمسلمين جميعاً.
ومن الطبيعي إذا كانت هذه الأمم أقوى حضارة وأرقى مدنية، أن تؤثر على العرب الأضعف في هذا الجانب، وكذلك العرب لما كانوا أقوى وسيطروا على تلك البلاد عدلوا تلك الحضارات بما يتناسب مع دينهم وقيمهم.
أكد الكاتب في نهاية الفصل أن العقيدة الإسلامية لم تخل من تأثر بهذا الامتزاج، ونفى أن تمحي العقائد الوثنية والمسيحية من قلب المسلم الجديد!! . فلديهم تصورهم السابق عن الكون والإله غير ما يتصورها الآخر. وأيضاً هم لم يفهموا الإسلام بحذافيره كما فهمه العرب ــ كما يقول ــ.
وأقول تعليقاً على ذلك: أن ذلك ليس على إطلاقه، بل حتى العرب الذين عاشوا الجاهلية والإسلام كانت لهم رواسب من الشرك، وبعض الفرس الذين كانوا على الوثنية أسلموا وصفت نفوسهم وعقائدهم، ومعلوم قصة أهل مكة لما خرجوا مع النبي r من مكة لما فتحها، وقالوا اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وفي الجانب الآخر قصة سلمان الفارسي، إذ تنقل بين الوثنية والمسيحية، لكنه لما أخلص صفى قلبه للإسلام الصحيح.
ولست أنفى قول الكاتب جملة ولكن ليس على إطلاقه، وهو يصدق على كثير من الحالات التي دخلت في الإسلام من أمم أخرى، ولعل ما يصدقه أن عقائد الجهمية والقدرية إنما ابتدأت منهم أو ممن تأثر بهم.
أكد أيضاً أن العرب انتصروا في شيئين عظيمين، (اللغة والدين) وهذا شي نؤكده، إذ هما من أبرز عناصر الثقافة والذي يؤثر على الآخر بها، هو الغالب والآخر مغلوب.
الباب الثالث : الفرس وأثرهم
الفصل الأول: دين الفرس

أسهب الكاتب في تفصيل دين الفرس ومذاهبهم، واستنتج أن الفرس بطبيعتهم ميالون إلى عبادة المظاهر الطبيعية، مثل السماء والضوء والنار والشمس. وهي ملاحظة جديرة بالتأمل. وقد تعكس النفس الفارسية وطبيعتها المحبة للطبيعة.
وذكر أن أديانهم الرئيسة ثلاث (الزرادشتية – المانوية – المزدكية)، وفصل في كل دين على حدة وقد استنتج أن بعضاً من أفكار الفرق الإسلامية استمدت أفكارها من هذه الأديان، كالقدر عند المعتزلة وغيرهم، وعند دخولهم في الإسلام صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من ملوك الفرس، وثنوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه الرافضة في الإسلام.

الفصل الثاني: الأدب الفارسي
فقد رأى الكاتب أن لغة فارس ودينهم اضمحلت بسبب مجيء العربية والإسلام وإحلالها محلهم، ولم يبق منها إلا النزر اليسير ، وكذلك الشعر الفارسي لم يصل منه شيء وقد رجح الكاتب أن الشعر العربي قد قتله!
وقد كان تأثير الأدب الفارسي على العربي من وجوه: منها
أن من تعلم العربية من الفرس سرعان ما ظهر منهم ومن نسلهم شعراء، هؤلاء قد نشؤا نشأة فارسية وتأدبوا بالأدب الفارسي ثم صاغوا أدبهم في القالب العربي فأحكموا التقليد ، ولكن لا يمنع أن تكون بعض معانيهم فارسية وخيالهم روحهم. وذكر نماذج على ذلك.
وقد وصل في نهاية الفصل أن الأدب الفارسي صبغ الأدب العربي صبغة جديدة، وربما كان أدق أن نقول أنهما (تفاعلا).
وأقول أن اللفظ الثاني أولى بل أني أقول أن العربي استفاد من الفارسي وتأثر به لكن لم ينصبغ به وإنما بقي للأدب العربي هويته وشكله।


الباب الرابع: التأثير اليوناني الروماني
الفصل الأول : النصرانية

عندما فتح المسلمون بلاد النصارى، كانوا منقسمين إلى طوائف وكان بينهم جدال عظيم في العقيدة، بسطه المؤلف. لجأت النصرانية إلى الفلسفة اليونانية لتستعين بها على الجدل، ولتؤيد تعاليمها وعقائدها أمام الوثنيين والمسلمين، وكان النصارى على عكس طبيعة الشرقيين ، فالشرقيون والفرس كان من طبيعتهم الغرائب والخوارق العادات والتصوف والتدين، أما النصارى واليونان كان من طبيعتهم الفحص الدقيق والبحث العلمي. والتحليل المنطقي.

الفصل الثاني : الفلسفة اليونانية
في هذا الفصل أسهب في ذكر نشأة الفلسفة اليونانية، وأبرز أفكارهم، وكيف قام السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية إلى العراق وما حولها وأنهم كتبوها بلغتهم. ولما دخلت هذه البلاد في الفتح الإسلامي أسلم بعض السريانيين، وظل بعضهم على دينه، فبدأ الضعف يدب إلى الآداب السريانية ومنها الفلسفة اليونانية، ولما جاء عهد الترجمة في بداية العصر العباسي كان لهؤلاء السريان الفضل الأكبر في عملية الترجمة، بالإضافة إلى اختلاطهم أصلاً بالمسلمين مما أدى إلى امتزاج عقليتهم بالعقلية العربية والتلاقح بينهما، ويرى أنها كالثقافة الفارسية التي كانت مبثوثة بين المسلمين في البلدان المختلفة وكان منالهم منها قريباً، إضافة إلى بداية الجدل الديني بين المسلمين والنصارى في العقائد.

الفصل الثالث: الأدب اليوناني والروماني
أكد الكاتب على قوة وكثرة الأدب اليوناني، لكنه تساءل عن عدم تأثير ذلك الأدب على العرب كما أثر الأدب الفارسي مع قلته.
وأرجع ذلك إلى علتين ، الأولى : أن العرب كانوا متعصبين لأدبهم ولم يسمحوا فيه بتغيير ولا بابتكار، أو تحوير في أساسه. الثاني أن الفرس ذابوا في البيئة العربية أكثر من الرومان واليونان.
كما لم ينف الكاتب تأثر العربية بأدبهم ولغتهم مطلقاً بل أرجع استخدام بعض العرب لبعض الكلمات إلى لغة الرومان (كالقسطاس) والبطاقة وغيرها ، وأنا أقول إن بعضها أصيل بالعربية فالقسطاس وردت بالقرآن والبطاقة وردت بحديث البطاقة.

الخلاصة برأيي..
كأن الكاتب يريد أن يقرر في نهاية الأبواب الثلاثة أن :
· للعرب شخصية مستقلة وتراث أصيل هو نتاج بيئتهم الخاصة.
· غلبة العرب على الأمم الأخرى لم تمنع من امتزاجهم بهم، أو تأثر العرب الكامل في بعض النواحي الحضارية.
· التأكيد على أن أساس التفرق الإسلامي كان من الامتزاج بالحضارات الأخرى، وأن الجدل الحاصل في الحضارة الإسلامية وخصوصاً في جانب العقيدة إنما هو تأثر بأولئك.
· أن العقائد الوثنية أو النصرانية لم تمح من الذين دخلوا في الإسلام من فارس والروم، بل بقيت بعض الرواسب بقصد أو بدونه، وأن لها دور سلبياً في الحضارة الإسلامية.
· التأكيد على أن العرب إنما غلبوا الأمم الأخرى بعنصرين مهمين: اللغة والدين وهي التي صبغت الأمم الأخرى بصبغة عربية.

موجز عن مفهوم العولمة

ماهي العولمة؟؟

مفهومها:
كثرت الآراء حول مفهوم العولمة وذلك لاختلاف وجهة الباحثين فتجد للاقتصاديين تعريف ، وللسياسيين تعريف ، وللاجتماعيين تعريف وهكذا .
* وجهة النظر الاقتصادية :
تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة ، وانتقال الأموال والقوى العاملة وبالتالي خضوع العالم لقوى السوق العالمية ، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة ، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات.
* وجهة النظر الاجتماعية :
زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات.
* وجهة النظر الثقافية :
أنها صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل الإعلامية ، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم.

تاريخها ونشأتها:
شاع هذا المصطلح في التسعينات بعد انهيار المعسكر الشيوعي، واستفراد أمريكا بالعالم ، ولاسيما عندما طالبت أمريكا دول العالم بتوقيع اتفاقية التجارة العالمية بقصد سيطرة الشركات العابرة للقارات على الأسواق العالمية . مما يؤكد أن العولمة بثوبها الجديد أمريكية المولد والنشأة .
ويرى الباحثون الذين تحدثوا عن نشأة العولمة أن العولمة عملية تراكمية ، أي أن هناك عولمات صغيرة سبقت ومهدت للعولمة التي نشهدها اليوم ، والجديد فيها هو تزايد وتيرة تسارعها في الفترة الأخيرة بفضل تقدم وسائل الإعلام والاتصال ، ووسائل النقل والمواصلات والتقدم العلمي بشكل عام .
هناك من يري أن العولمة فكرة حديثة النشأة ترجع إلى القرن الخامس عشر و تطورت تدريجيا عبر مراحل حتى اتخذت الشكل الحالي.
ـ المرحلـة الأولــى : بدأت في القرن الخامس عشر حيث نشأت العولمة نتيجة لانتشار أفكار الدين المسيحي و زيادة سلطة الكنيسة.
ـ المرحلـة الثانيــة : بدأت في منتصف القرن الثامن عشر مع بداية الحديث عن العلاقات الدولية و القانون الدولي.
ـ المرحلــة الثالثـة : من بداية القرن التاسع عشر و حتى منتصف القرن العشرين حيث شهد العالم تقدما في المواصلات و الاتصالات.
ـ المرحلـة الرابعـة :
و قد امتدت من منتصف القرن العشرين حتى السبعينات من نفس القرن و شهدت هذه المرحلة ظهور منظمة الأمم المتحدة و التنافس بين الدول للوصول إلى القمر و التهديد بالحروب النووية .
ـ المرحلـة الخامسـة :
و هي التي تشهدها حاليا و تمثل فترة ما بعد الحرب الباردة و ولادة الشركات العابرة للقارات و الشركات متعددة الجنسيات و سيادة الأمم المتحدة.
و على عكس من ذلك يرى البعض أن العولمة فكرة حديثة جدا تعود إلى القرن التاسع عشر ، امتدت العولمة الأولى من سنة 1800 إلى 1920 نتيجة استخدام القطار و اختراع الهاتف ، و تحول العالم خلال هذه المرحلة من عالم كبير جدا إلى متوسط الحجم .
ولابد أن نشير إلى أن الحرب العالمية الثانية لما انتهت عام 1945م كانت قد خلفت آثاراً تعد منعطفا مهماً في تاريخ العولمة ، إذ أنه بدا واضحاً أن الهيمنة الحقيقية لا ينبغي أن تكون عسكرية ، و إنما ثقافية و اقتصادية . و هذا ما سينتج عنه في النهاية هيمنة سياسية شاملة لكل المناحي .
و قد بذلت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحقبة و بين عامي 1948-1951 أكثر من اثني عشر مليار دولار من أجل إعادة بناء الدول الصناعية الغربية و اليابان و عبر مشروع (مارشال)، و لم يكن هذا كرماً ذاتياً من الولايات المتحدة الأمريكية و لكنها كانت ترى بعداً في هذا البذل سيتحقق لها ، وهو أنها ستجعل من أوروبا و اليابان جزء من سوق مفتوحة تساعدهم فيها على استيراد المصنوعات الأمريكية ، و إيجاد فرص للاستثمار ، بالإضافة إعادة تنظيم العلاقات النقدية و أسعار الصرف ووسائل الدفع الدولية , و قد تمثل ذلك بظهور (البنك الدولي) و (صندوق النقد الدولي) .

أهدافها :
يرى كثير من الباحثين إن العولمة تسعى إلى جذبنا إلى أفكار يراد لنا أن نسلم بها، وهي الأهداف الحقيقية للعولمة .
ويمكن إيجازها في عدة نقاط:
أولاً: التحكم في الاقتصاد العالمي وإخضاعه لمصالح الدول الكبرى وذلك عن طريق حرية السوق والتعامل المشترك بين الدول، وتأمين مزيد من الأسواق للاستهلاك ، ومزيد من الثروات للاستيلاء عليها.
ثانياً: تشكيل النظام العالمي المالي ليندرج تحت المظلة الرأسمالية الغربية والتي يحكمها الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية ، وأن انتصار النظام الرأسمالي دليل على صلاحيته وأنه أفضل صيغة يمكن للعقل البشري أن يصل إليها ، ولا يمكن لدول العالم أن تخرج من تخلفها إلا بدخولها في المنظومة الرأسمالية .
ثالثاً: القرية الكونية الصغيرة ومحاولة ربط الإنسان بالعالم لا بالدولة والتي تعني القضاء على سلطة الدولة والمشاعر الوطنية ، ودمج العالم في وحدة إعلامية واحدة تنطلق من منطلق معلوماتية واحدة.
رابعاً: الهيمنة السياسية على دول العالم الثالث ، واستعمار ممتلكاتها وخيراتها . فيكون التعامل على وفق نظرية داروين "البقاء للأصلح" فلا بقاء للضعيف ؛ بل يجب إقصاءه حتى ينقضي ويفنى ، فالضعيف مهمش ويجب أن ينبذ عن الطريق.
خامساً : التذويب الحضاري لسائر الحضارات التي تحمل قيماً مضادة لقيم الحضارة الغربية وعلى رأسها الحضارة الإسلامية باعتبارها المحرك الأول لمقاومة الحضارة الغربية. وفي هذا يقول الكاتب الأمريكي " صموئيل هنتنجتون" :" إنه لا مجال ولا إمكانية للتعايش مع الحضارة الإسلامية لأنها تختلف عن الحضارة الغربية وإن المواجهة التي انتهت ضد الحزب الشيوعي تركت الفضاء مفتوحاً أمام مواجهة جديدة لا تكون إلا مع الغرب وقيمه ، والإسلام الذي هو غير قيم الغرب ؛ بل هو مغاير للحضارة الغربية ”.
وهذا ما صرح به "نيكسون" في كتابه " الفرصة الأخيرة ":"إنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد هناك عدو سوى الإسلام". فيجب القضاء على التعصب الديني والقومي والإقليمي ومزج الأمم في الحضارة الغربية.
سادساً : إعادة بناء أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنساني ، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية ، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني.

الفرق بين العولمة والعالمية :
العالمية : انفتاح على العالم ، واحتكاك بالثقافات العالمية مع الاحتفاظ بخصوصية الأمة وفكرها وثقافتها وقيمها ومبادئها . فالعالمية إثراء للفكر وتبادل للمعرفة مع الاعتراف المتبادل بالآخر دون فقدان الهوية الذاتية .
إن خاصية العالمية هي من خصائص الدين الإسلامي ، فهو دين يخاطب جميع البشر ، دين عالمي يصلح في كل زمان ومكان ، فهو لا يعرف الإقليمية أو القومية أو الجنس، جاء لجميع الفئات والطبقات ، فلا تحده الحدود . ولهذا تجد الخطاب القرآني موجه للناس جميعا وليس لفئة خاصة فكم آية في القرآن تقول " يا أيها الناس" فمن ذلك قوله تعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " وقوله تعالى :"يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وقوله تعالى :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظة الناس وقد تجاوزت المائتين آية ؛ بل إن الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه تنسب أقوامهم إليهم " قوم نوح " " قوم صالح " وهكذا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرد الخطاب القرآني بنسبة قومه إليه صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم فهو عالمي بطبعه، " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"
فالإسلام دين تفاعلي حضاري منذ نشأته . فمنذ فجر الرسالة النبوية نزل قوله تعالى :" ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " فيذكر الخطاب القرآني الكريم المتغيرات العالمية ، لإدراك أبعاد التوازنات بين القوتين العظميين في ذلك الزمان ، وذلك " أن المسلم يحمل رسالة عالمية ، ومن يحمل رسالة عالمية عليه أن يدرك الوقائع والأوضاع العالمية كلها وخاصة طبيعة وعلاقات القوى الكبرى المؤثرة في هذه الأوضاع.

قراءة في التنوع والوحدة في ثقافة العالم الإسلامي والعربي

قراءة في التنوع والوحدة في ثقافة العالم الإسلامي والعربي


أن التنوع والتعدد والاختلاف هو سنة إلهية كونية في الحياة.. من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان.. و هذه التعددية هي في إطار وحدة الأصل الذي خلقه الله ، سبحانه وتعالى وهو الإنسان .. فالإنسان الذي خلقه الله من نفس واحدة يتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان وكذلك إلى شرائع في إطار الدين الواحد .. وإلى ثقافات ،وحضارات وكل ذلك في إطار وحدة الأصل أيضا. كما يتنوع على عادات وتقاليد وأعراف متمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة ، بل والثقافة الواحدة .
وهذا التنوع والاختلاف من حيث هو حق للإنسان هو أيضا سنة إلهية (وَمِـنْ آيَاتِهِ خَلْـقُ السَّمـوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُـمْ وَأَلْوَانِكُـمْ إِنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِّلْعَالِمِيـنَ )
(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِـمَ رَبـُّكَ وَلِذَلـِكَ خَلَقَهُـمْ )
هذا إذا تحدثنا عن التنوع والاختلاف في الكون، لكننا إذا أتينا إلى الوحدة أو الصورة الواحدة فإنها عزيزة على مجتمعات البشرية، وذلك لأن الإنسان مفطور على التنوع في جميع شؤونه.
إننا كعرب وكمسلمين يجب أن ننظر إلى هذا التنوع في ثقافة العالم العربي والإسلامي أنها نقطة قوة وليست نقطة ضعف إذا نظرنا إليه باعتباره محفزاً على الإثراء الحضاري والثقافي وعندما يصب باتجاه الاتحاد والقوة. ولكنه في المقابل هو نقمة وضعف إذا نظرنا إلى أننا مختلفين في كل شي ولا يوجد بيننا أي نقاط اتفاق. مما يؤدي إلى زيادة الانقسام والتشظي داخل المجتمع الواحد.
إننا إذا نظرنا إلى واقع العالم العربي والإسلامي وجدنا أن الأغلبية المسلمة السنية هي السائدة فيه ولكننا لن نستطيع أن نغفل الأقليات غير المسلمة المستوطنة فيه. فهناك المسيحيين من كافة طوائفهم وعلى صعيد التنوع المذهبي نجد الشيعة والدروز والعلويين . هذا في الجانب الديني أما الجانب العرقي فكما أن العرب يشكلون جزءا من هذا المجتمع فإنك تجد الأتراك والفرس والأكراد والأمازيغ إلى غير ذلك من الأجناس والأعراق المختلفة اختلافا كبيرا.
لم يعرف أي مجتمع التنوع والتعدد كما عرفه المجتمع العربي والإسلامي ، لأننا إذا أتينا إلى أوربا مثلاً فإننا نجد تنوعا كبيراً ولكن لا يصل إلى تنوع العالم العربي والإسلامي . لأنك تجد في الدين الواحد عدة فرق وفي الفرقة عدة مذاهب وفي وسط المذهب الواحد عدة طرق وفي الطريقة عدة تطبيقات وهكذا، وكذلك في الجانب اللغوي أو العرقي وفي ظني أن الفروقات الجزئية في الجانب اللغوي والعرقي بدأت تتلاشي شيئا فشيئا في السنوات الأخيرة بعدما غذيت بشكل كبير في العقود المتأخرة. وإن كانت بعض الأدوات الإعلامية إلى يومنا هذا حريصة على أز مثل هذه التوجه.
الوحدة في عالمنا الإسلامي والعربي في نظري لا تتمثل إلا في كوننا عربا أو كوننا مسلمين إذا نظرنا إلى المجتمع العربي والإسلامي كمنظومة واحدة، والتنوع هو السائد فيه فيما دون ذلك ، فالذي يجمعنا هو اللغة والدين مع استثناءات فيها كما أشرنا سابقا، بيد أنها لا تؤثر على هذه الوحدة.
لكن هل كان هذا التنوع يجد قبولا في المجتمع الإسلامي والعربي ؟؟
الناظر إلى تاريخ العالمين العربي والإسلامي يجد بجلاء كيف استطاع أن يحتوي جميع هذه الثقافات والتعددية والمذهبية، وساعدت هي بدورها في تنمية الحضارة الإسلامية يقول أحد الباحثين ((وبالرغم من استمرار الخلافة في البيت العباسي ببغداد زهاء خمسة قرون، لم يجد المسلمون غضاضة في صعود غير العرب إلى قمة السلطة السياسية. بل إن التجربة التاريخية الإسلامية تكاد تكون الوحيدة في التاريخ التي قبلت سلطنة الجند/العبيد، كما هي حالة السلطنة المملوكية)) ويقول أيضا ((وما إن بدأت الحقبة العثمانية الطويلة، حتى طور المسلمون نظام الملل الذي وفر لكل مجموعة دينية استقلالاً كاملاً لإدارة شؤونها الذاتية.
لا يعني هذا أن أوضاع غير المسلمين كانت دائماً مريحة، ولكن الملاحظ على أية حال أن مظاهر التعصب الإسلامي ضد غير المسلمين أو ظلمهم ارتبطت في أغلب الأحيان إما بحاكم ظالم عموماً (للمسلمين وغيرهم) أو بردود فعل على مظالم طويلة المدى أوقعتها أمم أوروبية غير مسلمة بالمسلمين))

وهذا مثال واحد من الأمثلة على سماح الثقافة الإسلامية والعربية بالتعددية إذا كانت تخدم إثراء الحضارة الإسلامية. فالأقباط مثلا ساعدوا في الجهود البحرية الإسلامية منذ وقت مبكر واليهود السريان ساعدوا على حركة الترجمة من اليونانية ولغات أخرى .
وانأ هنا لست بصدد ذكر ما نزلت به شريعة الإسلام من حفظ حق الآخر واحترام كامل حقوقه الاجتماعية والدينية والنفسية. وهو أمر ظاهر لا يمكن لأحد أن يخفيه، لولا أن ممارسات بعض المسلمين شوهت ذاك النظام البديع في حفظ التنوع الثقافي المجتمعي دون إلغاء هوية المجتمع الأصلية.
لكننا نرى أن سمة التعددية والتنوع الثقافي المتزن بدأ يفقد توازنه في العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان ، ونحن نراها في هذه الأيام تزداد تفاقما وإشكالاً .
فلو مررنا بشكل سريع على العالم العربي والإسلامي لرأينا مثلاً الأزمة الطائفية بين السنة والشيعة، تمتد من شرق العالم الإسلامي إلى وسطه، وهناك أزمة بين الأكراد والعرب أو الترك ، بل إن الناظر إلى المشهد العربي الإسلامي الكبير يكاد يرى حالة انفراط كاملة للأسس التي ارتكزت إليها ظاهرة التنوع في تاريخ المنطقة الطويل.
هذا قراءة سريعة مختصرة لواقع العالم العربي والإسلامي بين ظاهرتي التنوع والوحدة ، ولعنا في الختام أن نعود لنؤكد على أهم الحقائق :
1- التنوع هو حقيقة كونية وسنة إلهية لا يمكن إغفالها أو تهميشها ولا يمكن أن تسود نظرية مجتمع الرأي الواحد، وإن حاول البعض تطبيقها إلا أنها تبقى في عالم النظرية والمثالية.
2- ينبغي أن لا ننظر إلى التنوع في مجتمعنا أنه دخيل أو أنه من المؤامرات الأجنبية، فإن التنوع وجد قبل ذلك. لأن هذا النظر سيحول القضية إلى عراك سياسي إيديولوجي، وسيتسبب في خلق أزمات كبرى.
3- أن اعترافنا بالتنوع لا يعني استغفالها وعدم المعرفة التامة عنها ، بل يجب مراقبة تلك المذهبيات والتنوعات، كي لا تكون سوسا ينخر في المجتمع الواحد، والانتباه لها لا يعني هضم حقوقها ، بل يعني الرؤية الواعية لها باستمرار. ومعرفة كل شيء عن هذه الطوائف والفرق.

الماوردي والأحكام السلطانية

الماوردي والاحكام السلطانية

كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية فهو يمثل عصارة فكر الماوردي السياسي وخلاصة خبراته النظرية والميدانية لمعالجة الوضع المضطرب للأمة في عصر الماوردي في ظل ضعف الخلافة وتسلط البويهيين، فهو من خلال أفكاره عمل على معالجة الاختلالات في سياق البناء الاجتماعي الذي يشملها، ولذلك كانت الخلافة الإسلامية نقطة انطلاق محورية للماوردي باعتبارها الشكل التاريخي للسلطة في الإسلام وهي الشكل المتاح حالياً، ويخشى الماوردي أن يتفرّق الناس إذا بدأ النقاش حول شكل السلطة والوقت لا يسعف لإنتاج أشكال جديدة للسلطة، فكان أن سعى لتقويتها واستمرارها بعد تقييمه ونقده الواعي للواقع الذي يعيش فيه، فجاءت أفكاره معبّرة بصدق عال عن إشكاليات ذلك العصر وتضع المعالجات للواقع المضطرب آنذاك.
ويلاحظ أن كتاب الأحكام السلطانية حفل بالنصائح والتحذيرات من مغبة استمرار الواقع البائس للمجتمع والدولة في العهد العباسي في ظل ضعف الخليفة العباسي وتسلّط الأمير البويهي، ويحرك الماوردي في ذلك حرصه على استقرار السلطة واستمرارها وتخلّصها من كل ما يقعد بها، فمعالجته لقضية الخلافة وبيانه لكل ما ينبغي أن تكون عليه، هو في الواقع تحريض للخلافة لكي ترتفع إلى المستوى الذي يريده لها الشرع والمجتمع، وتحريض للمجتمع لكي يعود لسابق عهده، لأن ضعف الخلافة واضطراب كيان المؤسسة السياسية جاء نتيجة لتصدع الجسم المجتمعي إلى كيانات وطوائف إلى جانب أن المجتمع كان واد والخلافة في وادٍ آخر.
ومن أهم مميزات التنظير السياسي للماوردي أنه ينطلق من البناء الاجتماعي والثقافة السائدة خلال الحقبة التي عاشها واستطاع أن يوظف متغيرات عصره مع سوئها لصالح أفكاره السياسية التي ترمي الوصول للدولة الإسلامية الأنموذج نظرياً وعملياً.
كما تتميز أفكار الماوردي السياسية بالترابط والتدرج الموضوعي ابتداء من أدب الدنيا والدين مروراً بنصيحة الملوك وقوانين الوزارة وتسهيل النظر وتعجيل الظفر وانتهاء بالأحكام السلطانية الذي يمثل ثمرة نضوج الفكر السياسي للماوردي.
وتُعد معالجة الماوردي لعقدة إمارة الاستيلاء التي استعصت على الذين سبقوه أو عاصروه هي إحدى الإضافات المتفردة في فكر الماوردي السياسي، فأمارة الاستيلاء كما يقول الماوردي هي: "أن يستولى الأمير بالقوة على بلاد فيقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، فالماوردي أفلح في إعطاء إمارة الاستيلاء صبغتها الشرعية وصفتها القانونية وحسم الجدل المتطاول حول شرعيتها استناداً على مجموعة من الحجج أهمها استمرارية الشرعية للخلافة ومركزية السلطة وحفظ حقوق الأمة واجتماع الكلمة على الألفة.
وأفكار الماوردي السياسية يلاحظ عليها دائماً أنها مرتبطة بالواقع المجتمعي وبعيدة عن التهويمات الفلسفية أو الشطحات التأملية، والدولة عند الماوردي مرتبطة بالمجتمع وتسير في ركابه وتمثل انعكاساً حقيقياً لما يختلج في داخل المجتمع، فالفكرة السياسية عند الماوردي هي نتاج لما يمور في داخل المجتمع بموضوعية وواقعية مجردة، والماوردي من كل ما طرح في كتاباته يرمي للوصول إلى نظرية عامة في الحكم يمكن تطبيقها عملياً على الواقع لتضع الحلول لمشكلاته وتنهي الاضطراب السائد فيه، لذلك يعتبره الكثيرون واضع الأسس النظرية للحكم في الإسـلام.
ومن أفضل إسهامات الماوردي السياسية أنه بعد تشخيص الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يضع الحلول ويقترح البدائل المناسبة لكل إشكالية، وقد لا يسعفه الواقع المؤلم أن يصرح بالداء فيكتفي بالحديث عن الشكل الأمثل لموطن الداء فيعرف المتابع الحصيف ما يريده الماوردي.

كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية رحمه الله (قراءة ونقد)

قراءة لكتاب (النظرية السياسية عند ابن تيمية ) لحسن كوناكاتا وتلخيص لأبرز ما جاء فيه:
تميز موقف ابن تيمية عن موقف غيره فيما يتعلق بالسياسة الشرعية من عدة جوانب :
· أدت تحليلات ابن تيمية لواقع الأمة وتاريخ ظهور الأئمة إلى نظرية الغلبة والقهر في تعيين الإمام، إذ يدل هذا التاريخ عنده على أن معظم الأئمة جاءوا نتيجة القهر والغلبة. ولم يحدث انتخاب على الطريقة الديمقراطية وفق مفهومها الحديث. وعندما حدث نوع من المبايعة، فقد كانت هذه المبايعة لاحقة على تمكن الإمام من السلطة، أي أن البيعة جاءت لتأييد أمر واقع وكتصديق عليه باستثناء حالة أو حالتين.
· ابن تيمية لا يعتني بالبحث عن القالب الذي تنعقد به الإمامة كما فعل عامة الفقهاء، حيث إن شرعية الإمام عندهم تتعلق على صحة الانعقاد والتولي بالكيفية التي ذكروها.
· ففي تصور ابن تيمية فإن الإمامة هي إحدى الولايات أو جزء من نظام الدولة، وإن كانت هي أكبر ولاية أو أكبر جزء، ولكنه لا يعتبرها مصدراً لسائر الولايات وهذا على العكس من تصور الفقهاء للإمامة، والذي يعتبر أن الإمامة هي مصدر السلطة للنظام، أي أن سائر الولايات تتلقى شرعيتها وسلطاتها عن طريقة التفويض من قبل الإمام، وعليه فالإمام هو مصدر الولايات، والرعية في الأصل مجردين من أي ولاية في تصور الفقهاء، وهذا يعني أن ابن تيمية خالف التصور الهرمي الفيضي العام الذي قامت عليه بنية الإمامة عند الفقهاء، وما هي إلا جزء منه، ولما خالف ابن تيمية الفقهاء في هذا التصور وتوابعه كان باعتبار أن الولاية عنده متعلقة بالقدرة، وعلى هذا فالولاية متوزعة بين الأمة بحسب قدراتهم.
· ولقد كان مفهوم الأمة الحاضر في تفكير ابن تيمية ذا مضمون ديني، في حين يغيب عنه المعنى التاريخي والاجتماعي. فلم يدرس ابن تيمية مفهوم الأمة بصورة منهجية منظمة مجردة عن مفهوم الدين. ومن هنا فإن مفهوم "الأمة" عند ابن تيمية يتوحد مع مفهوم "الملة" ومما أكد المضمون الديني لمفهوم الأمة عند ابن تيمية أنه نظر إلى الأمة باعتبارها الوارثة للنبوة.
وفي هذا الصدد تبين الفرق الجوهري بين تصور الفقهاء وتصور ابن تيمية، إذ يعتبر الفقهاء الإمام هو خليفة الرسول ? القائم بحراسة الدين والدنيا. ثم يستخلف رعاياه نيابة عنه بينما الأمة عند ابن تيمية هي الوارثة لخلافة النبي.
· أيضاً اتضحت السمات الواقعية للفكر السياسي عند ابن تيمية، هذه الواقعية تتأصل في طوباوية دفينة، فبما أن الخلافة تستلزم نظاماً مثالياً لا يمكن تحقيقه في ضوء الظروف التاريخية المعاصرة له، فلا بد من العيش ـ في انتظار تحققها ـ داخل دولة شرعية أي دولة تطبق السياسة الشرعية.
ومن هنا نجد أن ابن تيمية يوجز الحديث عن الخلافة، ويطنب في السياسة الشرعية لأن مجرد التحليل العقلي يظهر أن الخلافة تعني في الحقيقة تجاوز الدولة। وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث وفق الشروط التاريخية القائمة آنذاك. ومن ثم فالحل المتاح هو محاولة إصلاح الدولة أو السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.
وهناك بعض النقاط التي توقفت معها في الكتاب:
* قال ابن تيمية : ((فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو يسبق في الطلب. بل ذلك سبب المنع)). وساق على ذلك بعض الأدلة.
والذي أراه أن طلب الولاية لا يكون سببا في المنع دائما، حيث يجوز أن يطلب الكفء الولاية فيما يتقنه ويعلم من نفسه القيام به. ونحمل الأدلة المانعة من طلب الولاية أو الأدلة التي تمنع من طلبها من التولي، أنها ف5يمن طلبها ابتغاء الدنيا والرياسة والاستعلاء. ومن ذلك قول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض).
وقد يثار تساؤل فيما لو كان الأكفأ هو الذي تقدم وطلب الولاية، ولو كان قد طلبها للدنيا وللرياسة وغيره ممن لم يطلبها ليس بكفء لكونه ضعيفا أو غير أمين. فهل نمنع منها الكفء لذلك أم يستثنى في هذه الحال؟؟!

***

* قال رحمه الله : ((وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولى القضاء، إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد، قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم))
فأقول : إن يقصد بقوله (جاهل دين) الجاهل الحقيقي الذي هو عكس العالم فكيف يقدم للقضاء وهو جاهل إذ هو في تلك الحال أفسد من الفاسق إذ لا يغني الدين عن العلم إن كان جاهلا. أما إن كان يقصد الأقل علما فلا إشكال.

***

قال رحمه الله: ((فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المتعدين)).
أقول : قسم ابن تيمية أمر الدنيا الضروري لقيام الدين وحفظه إلى قسمين (قسم المال وعقوبات المعتدين) والذي أرى أن العقوبات إنما تدخل في باب أوسع وهو حفظ الامن وهو ضروري لقيام الدين، فإن العقوبات هي جزء من الأمن الذي يجب على الوالي إقامته وحفظه.

***

* قال رحمه الله : ((فإذا تكافأ رجلان، أو خفي أصلحهما أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية، لما تشاجروا على الأذان، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا}. فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر، وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها))
هنا أطرح تساؤلاً : إذا تساوى رجلان في الدين والأمانة ولم يعرف أفضلها فهل نقول أنه للإمام أن يختار من تلقاء نفسه أو يقرع بينهما؟؟ هل نلغى اختيار الإمام تماماً ونلزمه بالقرعة بين المتماثلين ولا نجعل له حق التفضيل ولو كان على غير أساس القوة والأمانة ؟ مجرد تساؤل!

حكم الشورى وتطبيقاتها في الإسلام

حكم الشورى وتطبيقاتها في الإسلام


الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد /

ينقسم موضوعنا في حكم الشورى إلى قسمين:
· حكمها ابتداءً.
· وحكم رأي الشورى । هل هو ملزم أم معلم؟


اختلف الفقهاء في حكم الشورى ابتداءً: هل تعد واجبة على الحكام أم هي مندوبة فقط؟
فذهب البعض إلى أن الأمر بالشورى لم يكن للوجوب ، وإنما كان للندب ، وأن أمر الرسول r بمشاورة أصحابه إنما كان تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه.
والذي نراه أن الشورى واجبة ، ونستند في ذلك إلى ما يلي :
أولاً : أن القرآن الكريم قد أشار إلى الشورى في آيتين في إحداهما نجده قد وضع الشورى إلى جانب ركنين هامين من أركان الإسلام ((الصلاة والزكاة)) (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)، حتى لكأنه يعدها بالنسبة للمسلم المؤمن إحدى صفاته ، أو شرائطه الأساسية ، بل ويذهب بعض العلماء إلى أن سورة الشورى سميت كذلك لأنها السورة الوحيدة التي قررت الشورى عنصرا من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة.
وفي الآية الثانية نجد أن الله قد وجه الخطاب إلى الرسولr بأن يلجأ إلى الشورى ، وذلك بصيغة الأمر إذ قال تعالى {وشاورهم في الأمر} .
ثانياً : أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشاور أصحابه في كل ما يجد من أمور هامة تمس الجماعة المسلمة . وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الأمر في الشورى هو للوجوب ، ولذلك نجد أنهم كانوا حين ينزل بهم الأمر لا يبرمونه من غير شورى ، وكان عمر يقول ((لا خير في أمر أبرم من غير شورى)) ، ويدل على هذا الفهم كذلك أن كلا من أبى بكر وعمر قام خطيبا في قومه أثر توليه الخلافة فقال الأول : ((..فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني)) ، وقال الثاني : ((يا أيها الناس .. من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه ، فقام رجل أعرابي فقال : والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ، فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم عوج عمر بسيفه)) .
ومعنى التقويم في الخطبتين هو التنبيه إلى الحق والإرشاد إلى الطريق المستقيم وهذا ما يدل على وجوب الشورى .
وهذا الرأي الذي يذهب إلى أن الشورى واجبة على الحاكم ، فإن ظاهر الأمر يفيد الوجوب ، ولا توجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب أو إلى غيره ، وبناء عليه فالأمر في قوله {وشاورهم في الأمر} هو أمر على الوجوب بمقتضى القاعدة الأصولية ، ولا دليل على أنه أريد به غير الوجوب .
كما أن الأمر في قوله {وشاورهم في الأمر} عام في رسول الله r وغيره من المكلفين ، وليست هناك قرينة لاختصاصه r به.
وفي ذلك يقول الأستاذ محمد رشيد رضا : ((وإذ أوجب الله المشاورة على رسوله فغيره أولى ، وسيرة الخلفاء الراشدين ، وإجماع الأمة ناطق بذلك ، وإن جهل ذلك من جهله من الفقهاء فجعلوها فضيلة لا واجبة ؛ لإرضاء الملوك والأمراء)).
فليس أدل على وجوب الشورى من التزام النبي r للمشاورة وهو المعصوم بالوحي ، فكان التزام غيره به أولى ، وكذلك التزام الخلفاء الراشدين طريق الشورى في الولاية والحك
إذا كنا قد انتهينا إلى أنه من الواجب على الحكام الالتجاء إلى الشورى ، فهل من الواجب عليهم العمل برأى أهل الشورى ، وبعبارة أخرى هل يعد رأى هؤلاء ملزما للحكام أم لا ؟ .
لا شك أن ذلك يترتب على ما مضى من وجوب الشورى أو ندبيتها .
فذهب فريق من إلى أن الشورى غير ملزمة للحكام ، وسندهم في ذلك أنه لا يوجد في القرآن الكريم ، ولا في السنة الشريفة نص يلزم الحاكم بالأخذ بالرأي الذي يشير به أهل الشورى.
فالآية الكريمة التي أمر الله فيها رسوله عليه الصلاة والسلام بالشورى وهى : {وشاورهم في الأمر} يعقبها قوله تعالى : {فإذا عزمت فتوكل على الله} ، فمن هذه الآية يتبين أن على الرسولrأن يمضى -بعد المشورة- في تنفيذ الرأي الذي عزم عليه لا ذلك الذي أشير عليه به .
وبعبارة أخرى فإن الرسول غير ملزم باتباع رأى أهل الشورى إذا هو لم يقتنع به .
وفي ذلك يقول القرطبي : ((الشورى مبنية على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ، وينظر في أقربها قولا إلى الكتاب والسنة ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما يشاء منه عزم عليه ، وأنفذه متوكلا عليه ، ثم نقل بعد هذا عن قتادة أنه قال في تأويل قوله تعالى : {فإذا عزمت فتوكل على الله} أنه قال : أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام إذا عزم على أمر أن يمضى فيه ويتوكل على الله ، لا على مشاورتهم . ثم يقول القرطبي : ((والعزم هو الأمر المروى المنقح ، وليس ركوب الرأي دون روية عزما))
وقال الطبري : ((فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفه ، وتوكل فيما تأتى من أمورك وتدع وتحاول ، أو تزاول على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه دون آراء صائر خلقه ومعونتهم)) .
ويضيف أحد القائلين بهذا الرأي إلى ما تقدم أنه : إذا رجعنا إلى صدر الإسلام لنستعرض الحالات التي التجأ فيها الرسول والخلفاء الراشدون إلى الشورى ، فإننا نجد أن الرسول e لم يأخذ برأي أصحابه في حادثة أسرى بدر ، وإنما أخذ برأيه الذي كان يشاركه فيه أبو بكر .
كما نجد أبا بكر لم يأخذ برأي الجماعة في مسألتين :
أحدهما : المسألة الشهيرة المعروفة بقتال المرتدين أو أهل الردة ، وكان ذلك في بداية عهد الخلافة ، حيث أعلن أبو بكر عزمه على قتالهم فقالوا : نصلى ولا نؤدي الزكاة . فطلب المسلمون من أبى بكر أن يقبل منهم ذلك ، وطلبوا من عمر أن يخلو بأبي بكر ليثنيه عن عزمه ، ولكن أبا بكر صمم على قتالهم ونفذ ما صمم عليه ، ولم يحتج عليه أحد بأنه خالف الرأي الذي أشار به المسلمون بما يقرب من الإجماع .
أما المسألة الثانية التي خالف فيها أبو بكر رأى الجماعة : فهي الخاصة بإنفاذ بعث أسامة بن زيد .
وينتهي أصحاب هذا الرأي من ذلك إلى القول بأن الشورى ليست ملزمة للحكام .
ويرد على ذلك:
أما واقعة أسرى بدر ، فإنهم لم يتفقوا على رأى يشيرون به على رسول الله r ، لكن الأغلبية وعلى رأسهم أبو بكر أشاروا بما رأى النبي r ، فأخذ به .
أما واقعة حروب الردة وبعث الشام ، فإن تفاصيل الواقعة تدل على أن أبا بكر لم يمض لأمره حتى حاجّهم ، وظهر لهم صواب رأيه ، فاجتمعوا عليه ، فأمضاه أبو بكر بعد ذلك .
وذهب رأى وسط إلى أن الرجوع إلى سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرة الخلفاء الراشدين يبين أن المشورة التي قدمها لهم المسلمون اتبعوها ، والتزموا بها بصفة عامة ، وأنه في الحالات النادرة التي لم يتبع فيها الخلفاء هذه المشورة كان لديهم الأسباب الجدية التي تبرر ذلك ، فأبو بكر حين أصر على قتال المرتدين على خلاف رأى أهل الشورى استند في ذلك إلى حجة شرعية ، وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى القول بأن الخليفة -كمبدأ- ملتزما باتباع مشورة المسلمين ما لم يكن لديه سبب جدي يحمله على خلاف ذلك.
ويعاب على هذا الرأي أنه لا يبين لنا متى يلتزم الخليفة برأي المسلمين متى لا يلتزم ، فقد ترك المسألة دون أن يضع لها ضابطاً محددا .
وهذا يؤدى إلى أن يترك الأمر لرئيس الدولة ليحدد بنفسه -ووفق هواه- متى يلتزم ، ومتى لا يلتزم برأي المسلمين ؛ فكأن الالتزام وعدمه متروك له إن شاء التزم ، وإن شاء لم يلتزم .
وهكذا فإن هذا الرأي يمكن أن يؤدى إلى نفس النتيجة التي انتهى فيها الرأي السابق ، وهى أن الحاكم لا يلتزم برأي المسلمين.
وذهب فريق ثالث إلى أن الشورى ملزمة للحكام.
ويأخذ بعض الباحثين على هذا الفريق -بحق- أنهم لا يقومون بمناقشة تفسيرات كبار المفسرين للآية القرآنية التي نزلت بأمر الرسول بالشورى ، تلك التفسيرات التي تذهب إلى عدم إلزام الشورى.


تطبيقات الشورى في عهد النبوة والخلافة الراشدة

السنة العملية مليئة بالشواهد التي تدل على أن رسول الله r كان دائم التشاور مع أصحابه ، يكره الاستبداد بالرأي ؛ وكثيراً ما نزل عند حكمهم ، وإن كان رأيه في بادئ الأمر يخالف ما ذهبوا إليه . والوقائع في ذلك كثيرة:
1- فمنها : استشارته r لهم في الخروج إلى قتال قريش في غزوة بدر
2- ومنها : استشارته r لهم في شأن اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون يوم بدر ، وأخذه برأي الحباب بن المنذر ، حين قال له : أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال النبي r: بل هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال الحباب : فإن هذا ليس بمنزل وأشار على النبي r برأيه فوافقه.
4- ومنها : وقبوله لرأى الكثرة حين أشارت بالخروج يوم أحد فكان من عاقبة شوراهم ما كان
5- واستشار أصحابه قبل غزوة الأحزاب ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة.
7- ومنها : عمله بمشورة السعدين : ابن معاذ وابن عبادة ، إذ أشارا يوم الأحزاب بعدم مصالحة رؤساء غطفان : ففي غزوة الأحزاب عندما اشتد الأمر بالمسلمين ، دارت مفاوضات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المهاجمين من أهل الطائف ، وتم الاتفاق على أن يرجع أهل الطائف ولهم ثلث ثمار المدينة ، فسأل سعدُ بن معاذ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عما إذا كان للوحي دخل في هذا الاتفاق ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إنما هو أمر صنعته لكم رجوت من ورائه الخير)) ، فأخذ سعد المعاهدة ومزقها ، وقد كانت معدة للتوقيع ، قائلا : إنهم لم ينالوا منا تمرة إلا قرى ، أفبعد أن أعزنا الله يأخذون ثلث ثمار المدينة عنوة ، لا والله فلم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسر بذلك المسلمون جميعاً.
8- ومما روى عن أبى هريرة t أن قال : ((لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم))
أما عن تطبيقات الشورى من أفعال الصحابة ، فان الثابت تاريخيا أن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم اقتدوا برسول الله عليه الصلاة والسلام ، فكانوا يتشاورون في كل الأمور الهامة التي تحدث لهم .
1- فقد وصف أحد كبار التابعين -وهو ميمون بن مهران- خطة الحكم في عهدي الخليفتين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما فقال : ((كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم ، نظر في كتاب الله تعالى ، فإن وجد فيه ما يقضى به قضى به ؛ وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد ما يقضى به قضى به ؛ فإن أعياه ذلك ، سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم ، فيقولون : قضى فيه بكذا وكذا . فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم ؛ فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به)) . ثم قال : ((وكان عمر يفعل ذلك ؛ فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة ، سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء ؟ فإن كان لأبى بكر قضى به . وإلا جمع علماء الناس واستشارهم ؛ فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به)) .
2- وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبى بكر والأنصار ، في حديث السقيفة المشهور .
3- وتشاوروا في أهل الردة واستقر رأى أبى بكر على القتال ، وأقنع المسلمين به .
4- كما استشار أبو بكر k صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في غزو الشام ، ذاكرا لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام ، فقبضه الله إليه ، واختار له ما لديه ، ثم أضاف أن ((العرب بنو أم وأب ، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروم والشام ، فمن هلك منهم هلك شهيداً ، وما عند الله خير للأبرار ، ومن عاش منهم عاش مدافعاً عن الدين مستوجبا على الله عز وجل ثواب المجاهدين)) ، ثم طلب إليهم رأيهم ، وبعد مناقشة بينهم أبدى فيها بعض كبار الصحابة كعمر وعبد الرحمن رأيهم انتهت المناقشة بتفويض الخليفة في الأمر ، فقام أبو بكر يدعو القوم إلى الاستعداد لغزو الروم والشام ويقول ((فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم عليكم فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمراءكم ، ولتحسن نيتكم وسيرتكم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)) .
8- وكان عمر يجمع كبار الصحابة في عهده ويمنعهم من الخروج من المدينة لحاجته إلى استشارتهم .
9- ومن الصور الرائعة للاستشارة ما قام به عمر قبل موقعة نهاوند . فقد وردت الأخبار للخليفة بتجمعات للفرس واستعداداتهم ضد المسلمين الذين كانوا قد احتلوا الطرق ونادى عمر بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون بالمسجد حيث عقد لهم مجلس شورى افتتحه بأن عرض ما وصل له من أخبار وسأل المسلمين أن يشيروا عليه بما يفعل ، وقال لهم : أوجزوا في القول فان هذا يوم له ما بعده . فوقف طلحة بن عبيد الله يدلى برأيه فأعلن طاعة المسلمين للخليفة ولما يراه . ووقف عثمان بن عفان يقترح أن يندب الجند من الشام ومن اليمن للزحف إلى فارس وأن يقود عمر مسلمي الحجاز وهناك يتولى القيادة العامة ، ثم وقف على بن أبى طالب ينتقد هذا الرأي على أساس أن جنود المسلمين لو أخلوا الشام واليمن لأمكن أن تهب بهما ثورات يشعلها أعداء الإسلام واقترح أن يسير ثلث الجيش ويبقى الثلثان في كل مصر من الأمصار الإسلامية ، وأن يبقى الخليفة بالعاصمة يدبر الأمر ويمد الجيش بما يحتاجه من عتاد ورجال ، وارتأى المسلمون هذا الرأي وسار عليه عمر.
10- ومن ذلك أيضاً استشارته t في مسألة الوباء لما خرج إلى الشام وأخبروه إذ كان في ((سرغ)) أن الوباء وقع في الشام ، فاستشار المهاجرين الأولين ثم الأنصار فاختلفوا ، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء ، فنادى عمر بالناس : إني مصبح على ظهر -أي مسافر ، والظهر : الراحلة- فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة : أفرار من قدر الله . فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة .. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك ابل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق لرأى شيوخ قريش.
فهذا كله يقطع بأن نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين كان نظاماً شورياً أساسه الشورى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...